الحلم شيء جميل، بل إنه شيء لذيذ، فرغم أنه كثيراً ما يكون نوعاً من الهروب من قسوة الواقع من ناحية، إلا أنه كثيراً ما يشكل نوعاً من الحافز للبحث عما في الحياة من جمال، ومحاولة تحقيق هذا الجمال، وفي ذلك يكمن معنى الانسان وغايات الانسان من ناحية أخرى. فالانسان أولاً وأخيراً كائن حالم، ولولا الحلم ما كانت الحياة ذاتها. قد يكون الحلم مجرد هروب من الواقع إذا كان هو المسيطر على الذهن فقط، ولكنه أحد بواعث الحياة والحافز على تحقيق الآمال إذا كان جزءاً من الحياة وليس اختزالاً لكل الحياة. فالحلم هو التاريخ الحقيقي لحياة الانسان على هذه الأرض، غذ لولاه لما كان هناك أي نوع من التاريخ المعاش، ولكان الانسان مجرد دابة من دواب هذه البسيطة: تأكل وتتناسل ومن ثم تموت، دون أن تترك بصمتها بعد أن تمضي وتمضي الأشياء. وفي عالم مثل عالمنا العربي، نحن في حاجة للحلم أكثر من غيرنا ربما، على أن لا يكون الحلم هنا نوعاً من المخدر والتخدير، بقدر ما هو باعث على استمرار العيش في حالة يصعب العيش فيها، وأمل في الحياة في حالة تفتقد نضارة الحياة. ففي عالم مثل عالمنا هذا، حقاً ما أضيق العيش لولا فسحة الحلم، ولا أقول مجرد الأمل، رغم أن الحلم والأمل يمتزجان. فلولا الحلم والأمل، لربما فاق عدد العرب المنتحرين عدد أولئك الذين يفعلونه في السويد وبلا أخرى من بلاد الرحمن. وكغيري ممن هو عربي في هذا العصر، ومسلم في هذا الزمان، رحت أحلم..
رحت أحلم بأنه ذات يوم سوف يسود الحب بين الناس، فالحب وحسن الخلق هما جوهر الدين، ولكن البغضاء تحتل كثيراً من القلوب، فيتحول النور إلى ظلام، ويتحول الحب إلى كلمة لا معنى لها ولا مكان. رحت أحلم بمجيء ذلك اليوم الذي تحب فيه لأخيك ما تحبه لنفسك فعلاً لا قولاً. فنعم، نحن نكرر مثل هذا الحديث، الذي قاله، أو ما في معناه، رسولنا العربي الكريم (ص)، ولكننا لا نفعل في أكثر الأحيان مثقال ذرة منه، فنحب بالفعل لأخينا ما نكرهه لأنفسنا، ونعتبر أن ذلك جزء من الدين، والدين منه براء، براءة الاسلام من بعض رافعي رايته. سيأتي أحدهم ويقول إن حديث المصطفى الكريم منصب على العلاقة بين المسلمين، وليس كل البشر، فنقول: وليت الأمر كان كذلك. فحتى الاسلام، الذي هو لكل البشر ورحمة للعالمين، هناك مَن يريد أن يحتكره، فلا يعود المسلم، والحالة هذه، مسلماً، ولا يعود كل المسلمين من المسلمين، كما لا يعود كل الناس من بني آدم وحواء، وخلفاء الله في أرضه معاً. أناس يضعون أنفسهم فوق الناس، ويريدون أن يكون الله سبحانه وتعالى رباً لهم وحدهم دون بقية خلق الله من الناس أجمعين: لا يعرف كلماته إلا هم، ولا يفقه مراده إلا هم، وأن يكون محمد (ص) حكراً لهم، ليس إلا هم مَن يعرف ماذا يقول، ومعنى ما يقول. أما الاسلام، هذا المظلوم في آخر الزمان من قبل بعض أهله أنفسهم، فهو لهم وحدهم، وهم المسلمون دون خلق الله أجمعين، فسبحان الله عما يصفون.
ورحت أحلم بأنه ذات يوم سوف يسود شيء اسمه التسامح.. هذه القيمة، بل هذه الفضيلة التي لا يعرفها الكثيرون منا، والمصيبة أنهم لا يريدون أن يعرفوا. فقد خلقنا القدير جل شأنه بشراً النقص بعض من جبلتهم، ومن النقص ينبع السعي نحو الكمال، ولكن البعض يعتقد في نفسه الكمال وأنه من الكاملين، وسبحان الله وتعالى عما يصفون. لقد كانت مأساة البشرية الأولى، وفاتحة ملحمة الانسان على هذه الأرض، تلك اللحظة التي أمر الرحمن فيها الشيطان أن يسجد لمن جبلت يده من طين، ونفخ فيه من روحه، فأبى الشيطان، كبراً واعتداداً بنفس أعجبتها نفسها، فكانت مأساة الانسان في المكان والزمان من بعد ذلك. لقد خلق الرحمن الانسان والشيطان، وكان بامكانه، جلت قدرته، أن لا يخلق الانسان، أو أن يقضي على الشيطان حين عصاه، ولكنه خلق الانسان وأبقى على الشيطان لحكمة لا يعلمها إلا هو. ولكن البعض يمارس سلوك الشيطان، ويدعي معرفة مطلقة بحكمة الرحمن الخفية، وهو القائل في محكم كتابه: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل/ 125، والقائل في كلمات قرآنه: (إن ربك هو أعلم مَن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) الأنعام/ 117، والقائل في آياته: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) يونس/ 19، والقائل في بيانه: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون) النحل/ 92، والقائل في تنزيله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة/ 62. رب الجميع وفاطر الوجود والموجود يدعونا إلى التسامح، وإلى الإقرار بالبشرية والنقص، فهو لم يقض على الشيطان المتمرد رغم القدرة على ذلك، ولكن البعض من خلقه يريدون أن يكونوا أفضل من الخالق نفسه وهم لا يشعرون، والعياذ بالله ما يصفون ومما يفعلون. الكبر والكبرياء هما آفة أولئك، كما كانت آفة إبليس في بدء الوجود البشري: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستنكر وكان من الكافرين) البقرة/ 34، ناسين ومتجاهلين مقولة المصطفى (ع) لذلك الأعرابي البسيط: (خفف من روعك يا أخي .. فما أنا لا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة).
ورحت أحلم بأنه ذات يوم سوف يكون السلام لا السلاح هو الفيصل في العلاقات بين بني الانسان: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات/ 13. خلقنا الله للتعارف وبناء هذا الوجود، وليس للقتل وسفك الدماء والدمار، ولكن المشكلة أن كثيراً من الناس لا يعلمون، والمعضلة أن كثيراً من الناس لا يريدون أن يعلموا. فالفرق بين (ميم) السلام، وحاء (السلاح) هو المحدد لذاك البون بين صنع الحضارة ودمارها، والحضارة هي الباعث على خلق الانسان على هذه الأرض في النهاية: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة/ 30. فربنا، رب الناس أجمعين، خلقنا وقضى علينا بالهبوط من جنة الخلد من أجل هدف قدّره، ألا هو عمارة الأرض. فغاية الموجود هي عمارة أرض المعبود، وما عدا ذلك فهو خروج وصدود.
وتحية المسلمين من أهل القبلة جميعاً هي: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وليس السلاح عليكم، أو الغضب عليكم، أو اللعنة عليكم، كما يفعل البعض من أهل آخر الزمان فعلاً، رغم القول بالسلام والرحمة قولاً، وذاك يعني البناء لا الهدم، والحب وليس العنف، والسير في الأرض هوناً، وليس كأنك ستخرق الأرض أو تبلغ الجبال طولاً: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران/ 159. ولكنها العصبية، ولكنه التعصب، ذاك الداء (الشيطاني) الذي (إبلس) فيه إبليس فأتقن الأداء في فعله، وجعل من البعض أتباعاً له وهم لا يشعرون، فاعتقدوا أنهم نما يدافعون عن الرحمن، وهم في الحقيقة قد وقعوا في تبليس إبليس وفخاخ الشيطان. ولكننا لا نقول إلا ما قاله سيدنا المصطفى الكريم (ص): (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ورحت أحلم بأنه سوف يأتي ذلك اليوم الذي نشارك فيه أمم الأرض الحية في الإنتاج والإبداع وإثراء الوجود الانساني على هذه الأرض، وكيف لا يكون ذلك ونحن مَن يتلو (إني جاعل في الأرض خليفة)، ويردد: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، بدل أن نكون مجرد متلقين لما ينتجه الآخرون وما يبدعه العقل الخلاق لدى أولئك وأولئك من خلق الله على أرضه، ونتمنى على الله الأماني دون أن تتحرك الأيدي أو يحترق العقل منا. نريد ونريد ونريد، ولكن دون أن نحرك ساكناً، أو نتحرك مع المتحركين. وكيف نتحرك مع المتحركين ونحن في شغل شاغل بسفاسف الأمور والصراع حول كل ما هو غير مهم، ونقد الآخرين بمبرر وبلا مبرر، في ذات الوقت الذي نأكل فيه مما تنتجه مزارعهم، ونكتسي بما تنسجه مصانعهم، ونركب نتاج أفكارهم، ونقتل بعضنا بعضاً بأسلحتهم، ونشتم بعضنا بعضاً بما تبدعه عقولهم من وسائل ما كنا نحن لننتجها ونحن في مثل هذه الحالة من البؤس والسلبية والبغضاء لأي شيء وكل شيء، حتى لأنفسنا ذاتها.
ورحت أحلم بذاك اليوم الذي نتخلص فيه من سلبيتنا وبغضائنا لأي شيء وكل شيء، تلك التي نغلفها بمختلف أنواع المبررات والادعاءات، وندخل هذا العالم بثقة بالنفس دون غرور ودون تقليل من شأن الذات. فنحن اليوم نعيش بين مطرقة مفرط في تصوره عن عظمتنا وفرادتنا وخصوصيتنا المتعالية، ونحو ذلك من آليات دفاع نفسية تحاول تبرير السلبية والسكون في عالم لا يعرف السكون، وبين سندان مفرط في التقليل من شأننا لدرجة الاحتقار، في سادية جماعية هي الأخرى تستمرئ تعذيب الذات وجلدها، وكلا الموقفين هو مجرد تعبير عن عُصاب جماعي غرق فيه الجميع، أو أغرقوا فيه، إلا مَن رحم ربي. أحلم بذاك اليوم الذي ندرك فيه أننا جزء من البشر وليس كل البشر، وجزء من هذه الانسانية، وليس كل الانسانية: لسنا أفضل منهم، كما أننا لسنا أسوأ منهم، ولكن لكل مجتهد نصيباً. أما القاعدون أو الذين خدّرتهم الأماني، فإنهم في النهاية من الخاسرين، فالله عادل ولا يأتي من العادل إلا العدل. فكل البشرية هي خليفة الله في أرضه، ومَن يزرع هو الذي يحصد في النهاية، فالسماء في الخاتمة لا تمطر ذهباً ولا هي تمطر فضة، ولن تمطر ذهباً ولن تمطر فضة، مهما تمنى المتمنون.
رحت أحلم وأحلم، ثم تذكرت أننا نعيش في عالم توأد فيه الأحلام، كما كانت توأد فيه البنات في غابر الأزمان، وسالف العصر والأوان، وعرفت ساعتها لماذا نقول عن الفكر والأفكار (بنات الأفكار)، فالكل في حالات كثيرة إلى الوأد، والقبر كثيراً ما يكون هو المصير. شعرت بالتشاؤم يملأ صدري، كما يملأ الهواء الرئة، بل يجثم عليه ككابوس لا انفكاك منه، ولكني تذكرت أن الحق في النهاية هو الذي يسود، وأن الضوء قادم لا محالة بالرغم من كثافة الظلام، وأنه في الختام لا يصح إلا الصحيح: هكذا يعلمنا التاريخ، بل هكذا هي سنن الخالق في خلقه وما خلق، وفي النهاية لن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تغييراً، وكانت البسمة هي الختام.